الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} أي: أبدعهما واخترعهما على غير مثال، وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية، والاسم الشريف مبتدأ، وما بعده خبره {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} المراد بالسماء هنا جهة العلو، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال: إن ابتداء المطر منه.ويدخل فيه السحاب عند من قال: إن ابتداء المطر منها، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح.وتنكير الماء هنا للنوعية أي: نوعًا من أنواع الماء، وهو ماء المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} أي: أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقًا لبني آدم يعيشون به، و{من} في {من الثمرات} للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم، وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم.ولذا قال: {لِتَجْرِىَ في البحر} كما تريدون وعلى ما تطلبون {بِأَمْرِهِ} أي: بأمر الله ومشيئته، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} أي: ذللها لكم بالركوب عليها، والإجراء لها إلى حيث تريدون.{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما.وانتصاب {دائبين} على الحال، والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية، أي: دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره.وقيل: {دائبين} في السير امتثالًا لأمر الله، والمعنى: يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم.والليل لتسكنوا كما قال سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال الأخفش: أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئًا، فحذف شيئًا.وقيل: المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري.وقيل: {من} زائدة، أي: آتاكم كل ما سألتموه.وقيل: للتبعيض، أي: آتاكم بعض كل ما سألتموه.وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة {من كل} بتنوين كلّ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون {ما} نافية، أي: آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، ويجوز أن تكون موصولة أي: آتاكم من كل شيء الذي سألتموه {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} أي وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالًا فضلًا عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال، وأصل الإحصاء: أن الحاسب إذا بلغ عقدًا معينًا من عقود الأعداد، وضع حصاة ليحفظه بها، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلًا، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه، فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها، واختلاف أجناسها، اللهم إنا نشكرك على كلّ نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلاّ أنت، ومما علمناه شكرًا لا يحيط به حصر، ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2].{كَفَّارٌ} أي: شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها، غير شاكر لله سبحانه عليها، كما ينبغي ويجب عليه.وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هم كفار أهل مكة.وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، عن عمر نحوه.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن عليّ في الآية نحوه أيضًا.وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي الطفيل، أن ابن الكوّاء سأل عليًا عن الذين بدلوا نعمة الله كفرًا.قال: هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر.قال: فمن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: منهم أهل حروراء.وقد روي في تفسير هذه الآية عن عليّ من طرق نحو هذا.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} قال: الهلاك.وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} قال: أشركوا بالله.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} قال: بكل فائدة.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ} قال: دؤوبهما في طاعة الله.وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: من كل شيء رغبتم إليه فيه.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله.وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: من كل الذي سألتموه.وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم.وأخرجا أيضًا عن بكر بن عبد الله المزني قال: يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك.وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلاّ في مطعمه ومشربه، فقد قلّ عمله وحضر عذابه.وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال: قال داود عليه السلام: ربّ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ، فأوحى إليّ: يا داود تنفس فتنفس، فقال هذا أدنى نعمتي عليك.وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري. فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: {إن الإنسان لظلوم كفار}. اهـ.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وفي سورة النحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، فأعقب في الأولى قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} بغير ما أعقب في الثانية، يسأل عن ذلك؟والجواب عنه، والله أعلم: أن آية إبراهيم تقدمها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، ثم قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم: 30]، ثم ذكر إنعامه على عباده في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [إبراهيم: 32] إلى قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، فناسب ما ذكره تعالى من توالي إنعامه ودرور إحسانه ومقابلة ذلك من العبيد بالتبديل وجعل الأنداد وصف الإنسان بأنه ظلوم كفار.أما آية النحل فلم يتقدمها غير ما نبه سبحانه وعباده المؤمنين من متوالي آلائه وإحسانه، وما ابتدأهم به من نعمة من لدن قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [النحل: 4]، ثم توالت آيات الامتنان والإحسان فقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5]، فذكر تعالى بعضًا وعشرين من أمهات النعم إلى قوله منبهًا وموقظًا من الغفلة والنسيان: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، ثم أتبع بقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، فناسب ختام هذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم. اهـ.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَأ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.كيف يكون شكركم كفاء نِعَمِه..؟ وشكرُكُم نَزْرٌ يسير، وإنعامُه وافر غزير.وكيف تكون قطرة الشكر بجوار بحار الإنعام؟إنَّ نِعَمَه عُلُومُكُم عن تفصيلها متقاصرةٌ، وفُهُومُكُم عن تحصيلها متأخِّرةٌ.وإذا كان ما يدفع عن العبد من وجوه المحن وفنون البلايا من مقدوراته لا نهاية له... فكيف يأتي الحصر والإحصار على ما لا يتناهى؟وكما أن النَّفْعَ من نِعِمَه فالدفعُ أيضًا من نعمه.ويقال إن التوفيق للشكر من جملة ما ينعم به الحقُّ على العبد فإذا أراد أن يشكره لم يمكنه إلا بتوفيقٍ آخر فلا يبقى من النعم إلا ما يشكر عليه. اهـ.
|